عودة الكتاب الورقي- بين تحديات الرقمنة ودعم الثقافة في المملكة
المؤلف: نجيب يماني11.26.2025

في رثاء الأمير الرمز بدر بن عبدالمحسن، رحمه الله، يتردد صدى كلمات محمد عبده العذبة:
(لا تردين الرسائل وإيش أسوى بالورق)
وها هي التقنية الرقمية تلقي بظلالها الكثيفة على كل ما هو ورقي، من صحف ومجلات، وملحقات ثقافية وأدبية، وكتب أسهمت في تكوين ذائقتنا الأدبية والثقافية الرفيعة. ويثبط عزيمة كل من يأسف على زوال هذه المنابر الثقافية، مرددين بلامبالاة: لا تجهد نفسك، فكل شيء متاح على الإنترنت، اقرأ ما تشاء (أون لاين)، وما الحاجة إلى الورق؟
إنه الجدال الأزلي، الصراع الدائم بين الورقي والافتراضي.
ولكن، يبدو أن الكفة قد رجحت اليوم لصالح الورقي، وذلك لعدة أسباب جوهرية، منها: إغلاق أداة "كراود تانغل" التي كانت تقتفي أثر المعلومات المضللة والمضرة والأخبار الكاذبة على منصات التواصل الاجتماعي، في تناقض صارخ مع الوسائل الورقية التي تنشر الأخبار الموثقة عبر محررين متمرسين، وتقارير مدققة، وكتاب رأي يذيلون مقالاتهم بأسمائهم الصريحة.
وهناك عامل آخر بالغ الأهمية، إذ تروي "ماي تنغستروم" في الشرق الأوسط قائلة: "راودتني فكرة تأسيس مكتبة متخصصة في بيع الروايات الرومانسية في كاليفورنيا، وكان أول ما قمت به هو البحث المضني لمعرفة ما إذا كانت هناك مكتبات مماثلة في المنطقة. وذهلت عندما عثرت على مكتبة أخرى تحقق نجاحًا باهرًا، وتعتزم افتتاح فرع ثانٍ لها في نيويورك".
"وعلى الفور، بادرت بافتتاح مكتبتي على بعد نحو ميل واحد فقط من منافستها"، وتضيف بحماس: "وسرعان ما تحولت مكتبتي إلى مركز ثقافي ينبض بالحياة، ملتقى لعشاق الأعمال التاريخية والأدبية والرومانسية، مع حفلات توقيعات للمؤلفين لإصداراتهم الجديدة، واستفسارات لا تنتهي عن الكتب الحديثة. وأصبح لدي عملاء دائمون يترددون على المكتبة عدة مرات في الأسبوع، مدفوعين بشوق لا يرتوي للكتاب المطبوع".
وتستطرد قائلة: "لقد تغير المشهد العام في أمريكا بشكل ملحوظ، فبعد أن كان هناك مكتبتان فقط في شيكاغو، أصبح لدينا الآن شبكة وطنية تضم أكثر من 20 مكتبة، خلال عامين فقط، تعرض الروايات الأدبية والتاريخية الموجهة للقراء من جميع الأعمار، والأعمال التي تمزج بين الرومانسية والفانتازيا، والرياضية، والأعمال الأدبية الراقية".
وتضيف: "والأجمل من ذلك أن أغلب هذه المكتبات تمتلكها وتديرها نساء، ولهن الفضل الأكبر في الارتفاع المذهل في مبيعات هذا الصنف الأدبي، من 18 مليون نسخة مطبوعة في عام 2020 إلى أكثر من 39 مليون نسخة في عام 2023، وفقًا لإحصائية مؤسسة "سيركانا بوكسكان". فلا يزال الكتاب الورقي يحتل مكانة مرموقة ومتميزة في حياة الكثيرين، أولئك الذين يخصصون له وقتًا معلومًا لإشباع نهمهم الفكري والعقلي. بينما نرى شوارعنا وأسواقنا تفتقر إلى المكتبات التي تبيع الثقافة والأدب، مما يعكس ضعفًا في نسب القراءة لدى الفرد، مقارنة بشعوب أخرى أكثر إقبالًا على المعرفة".
وهذا الأمر يضعنا في موقف محرج للغاية، ويسير بنا في الاتجاه المعاكس للأمر الرباني الأول "اقرأ"، فالكتاب هو أحد أهم روافد الثقافة وإثراء المعرفة لدى الفرد، والضامن للتنافس في عالم اليوم على بصيرة واعية، وإدراك مميز. وبهذا يتحقق التمايز المنشود، إذا ما أردنا اللحاق بركب الحضارة، والنهوض قدمًا وفق ما بشرت به رؤية المملكة المباركة، بشارة تتطلب وعيًا ثقافيًا نوعيًا، ينسجم مع الواقع، ويرتكز على الموروث الثقافي والتاريخي الزاخر، لينتج مستقبلاً مشرقًا، ومفتاح ذلك الاطلاع الواسع، ووسيلته الكتاب.
فالقراءة هي حصن منيع ضد القلق، وضرورة حتمية لتنوير العقول والارتواء من معين الأدب والثقافة، ولا يتأتى هذا إلا عن طريق الكتاب، فالكتاب هو الثقافة، والثقافة هي الكتاب، والعقول المتعطشة تحتاج إلى غذاء ثقافي وفكري، لا تجده دائمًا على مائدة الإنترنت المتنوعة.
نحن أمة حضارية عريقة، تمتلك رصيدًا ضخمًا من التراث الثقافي والتاريخي، ولكننا لا نعرف عنه إلا القليل.
فلا يزال تاريخنا في حاجة ماسة إلى المزيد من المعرفة والاطلاع والبحث، وهي من المتطلبات الأساسية للتنمية البشرية المستدامة.
أخيرًا، أود أن أعزز هذا الطرح بدليل ثالث قاطع، موجهًا إلى أولئك المتفذلكين بالقراءة الرقمية على الألواح الإلكترونية:
معارض الكتاب المقامة على أرض المملكة تشهد إقبالًا جماهيريًا هائلًا، واعتراف الناشرين بأن السوق السعودية هي الأهم والأكثر استهلاكًا لكتبهم، وتحقيق أرباح طائلة.
أتوجه برجاء إلى الصندوق الثقافي التابع لوزارة الثقافة، بأن يولي جل اهتمامه بهذا الأمر، ويعمل على فكرة تطوير وإنشاء مكتبات مميزة بتصميم فريد وجميل في جميع المولات المنتشرة في أرجاء الوطن، وفي المطارات، لبيع الكتاب ونشره بأسعار مدعمة، فليس بطعام المولات وآخر صيحات الموضة وحدها يحيا الإنسان.
وزارة الثقافة، وهي تعيد رسم خارطة جديدة للحياة على خطى الرؤية السعيدة لوطن "اقرأ"، بعد سنوات من الجدب الفكري، ومحاربة الفكر وتقييد الحريات، مدعوة إلى إلزام كل مجمع تجاري بتخصيص مساحة مناسبة لمكتبة ورقية، وفي مطارات المملكة، لنشر الكتاب وتداوله وإشاعة الثقافة، وإيقاظ الوعي الأدبي والفكري، والترغيب في القراءة والمطالعة، وتعميقها في نفس الفرد، وإشاعتها كالماء والهواء، حتى يألفها الناس ولا يملون من رفقتها ومجالستها.
ومما يثلج الصدر ويسعد القلب، إعلان المستشار تركي آل الشيخ، عن إطلاق "جائزة القلم الذهبي للرواية"، والتي تركز على الأعمال الروائية الأكثر شعبية والأكثر قابلية للتحويل إلى أعمال سينمائية، وتتضمن الرواية الرومانسية والكوميدية والبوليسية وروايات الرعب والفانتازيا وغيرها.
وهذا الدعم والتشجيع القيّم من هيئة الترفيه، لا بد أن يقابله تحرك متكامل من وزارة الثقافة، لتكون المكتبات منتشرة في كل مكان، تنشر إبداع الداخل والخارج على حد سواء.
إننا نعيش جودة الحياة، ونتفيأ ظلال رؤية كريمة، فهل نشهد عودة مباركة لعصر الكتاب الورقي ونشره ودعمه من وزارة الثقافة؟ وهل نرى رفوف مكتباتنا وقد جمعت عقول العالم وقدمتها لنا في كتب مترجمة وروايات عربية وعالمية، من فكر وأدب ورواية وشعر، لنعيش جودة الحياة وننعم برفاهية الفكر؟
(لا تردين الرسائل وإيش أسوى بالورق)
وها هي التقنية الرقمية تلقي بظلالها الكثيفة على كل ما هو ورقي، من صحف ومجلات، وملحقات ثقافية وأدبية، وكتب أسهمت في تكوين ذائقتنا الأدبية والثقافية الرفيعة. ويثبط عزيمة كل من يأسف على زوال هذه المنابر الثقافية، مرددين بلامبالاة: لا تجهد نفسك، فكل شيء متاح على الإنترنت، اقرأ ما تشاء (أون لاين)، وما الحاجة إلى الورق؟
إنه الجدال الأزلي، الصراع الدائم بين الورقي والافتراضي.
ولكن، يبدو أن الكفة قد رجحت اليوم لصالح الورقي، وذلك لعدة أسباب جوهرية، منها: إغلاق أداة "كراود تانغل" التي كانت تقتفي أثر المعلومات المضللة والمضرة والأخبار الكاذبة على منصات التواصل الاجتماعي، في تناقض صارخ مع الوسائل الورقية التي تنشر الأخبار الموثقة عبر محررين متمرسين، وتقارير مدققة، وكتاب رأي يذيلون مقالاتهم بأسمائهم الصريحة.
وهناك عامل آخر بالغ الأهمية، إذ تروي "ماي تنغستروم" في الشرق الأوسط قائلة: "راودتني فكرة تأسيس مكتبة متخصصة في بيع الروايات الرومانسية في كاليفورنيا، وكان أول ما قمت به هو البحث المضني لمعرفة ما إذا كانت هناك مكتبات مماثلة في المنطقة. وذهلت عندما عثرت على مكتبة أخرى تحقق نجاحًا باهرًا، وتعتزم افتتاح فرع ثانٍ لها في نيويورك".
"وعلى الفور، بادرت بافتتاح مكتبتي على بعد نحو ميل واحد فقط من منافستها"، وتضيف بحماس: "وسرعان ما تحولت مكتبتي إلى مركز ثقافي ينبض بالحياة، ملتقى لعشاق الأعمال التاريخية والأدبية والرومانسية، مع حفلات توقيعات للمؤلفين لإصداراتهم الجديدة، واستفسارات لا تنتهي عن الكتب الحديثة. وأصبح لدي عملاء دائمون يترددون على المكتبة عدة مرات في الأسبوع، مدفوعين بشوق لا يرتوي للكتاب المطبوع".
وتستطرد قائلة: "لقد تغير المشهد العام في أمريكا بشكل ملحوظ، فبعد أن كان هناك مكتبتان فقط في شيكاغو، أصبح لدينا الآن شبكة وطنية تضم أكثر من 20 مكتبة، خلال عامين فقط، تعرض الروايات الأدبية والتاريخية الموجهة للقراء من جميع الأعمار، والأعمال التي تمزج بين الرومانسية والفانتازيا، والرياضية، والأعمال الأدبية الراقية".
وتضيف: "والأجمل من ذلك أن أغلب هذه المكتبات تمتلكها وتديرها نساء، ولهن الفضل الأكبر في الارتفاع المذهل في مبيعات هذا الصنف الأدبي، من 18 مليون نسخة مطبوعة في عام 2020 إلى أكثر من 39 مليون نسخة في عام 2023، وفقًا لإحصائية مؤسسة "سيركانا بوكسكان". فلا يزال الكتاب الورقي يحتل مكانة مرموقة ومتميزة في حياة الكثيرين، أولئك الذين يخصصون له وقتًا معلومًا لإشباع نهمهم الفكري والعقلي. بينما نرى شوارعنا وأسواقنا تفتقر إلى المكتبات التي تبيع الثقافة والأدب، مما يعكس ضعفًا في نسب القراءة لدى الفرد، مقارنة بشعوب أخرى أكثر إقبالًا على المعرفة".
وهذا الأمر يضعنا في موقف محرج للغاية، ويسير بنا في الاتجاه المعاكس للأمر الرباني الأول "اقرأ"، فالكتاب هو أحد أهم روافد الثقافة وإثراء المعرفة لدى الفرد، والضامن للتنافس في عالم اليوم على بصيرة واعية، وإدراك مميز. وبهذا يتحقق التمايز المنشود، إذا ما أردنا اللحاق بركب الحضارة، والنهوض قدمًا وفق ما بشرت به رؤية المملكة المباركة، بشارة تتطلب وعيًا ثقافيًا نوعيًا، ينسجم مع الواقع، ويرتكز على الموروث الثقافي والتاريخي الزاخر، لينتج مستقبلاً مشرقًا، ومفتاح ذلك الاطلاع الواسع، ووسيلته الكتاب.
فالقراءة هي حصن منيع ضد القلق، وضرورة حتمية لتنوير العقول والارتواء من معين الأدب والثقافة، ولا يتأتى هذا إلا عن طريق الكتاب، فالكتاب هو الثقافة، والثقافة هي الكتاب، والعقول المتعطشة تحتاج إلى غذاء ثقافي وفكري، لا تجده دائمًا على مائدة الإنترنت المتنوعة.
نحن أمة حضارية عريقة، تمتلك رصيدًا ضخمًا من التراث الثقافي والتاريخي، ولكننا لا نعرف عنه إلا القليل.
فلا يزال تاريخنا في حاجة ماسة إلى المزيد من المعرفة والاطلاع والبحث، وهي من المتطلبات الأساسية للتنمية البشرية المستدامة.
أخيرًا، أود أن أعزز هذا الطرح بدليل ثالث قاطع، موجهًا إلى أولئك المتفذلكين بالقراءة الرقمية على الألواح الإلكترونية:
معارض الكتاب المقامة على أرض المملكة تشهد إقبالًا جماهيريًا هائلًا، واعتراف الناشرين بأن السوق السعودية هي الأهم والأكثر استهلاكًا لكتبهم، وتحقيق أرباح طائلة.
أتوجه برجاء إلى الصندوق الثقافي التابع لوزارة الثقافة، بأن يولي جل اهتمامه بهذا الأمر، ويعمل على فكرة تطوير وإنشاء مكتبات مميزة بتصميم فريد وجميل في جميع المولات المنتشرة في أرجاء الوطن، وفي المطارات، لبيع الكتاب ونشره بأسعار مدعمة، فليس بطعام المولات وآخر صيحات الموضة وحدها يحيا الإنسان.
وزارة الثقافة، وهي تعيد رسم خارطة جديدة للحياة على خطى الرؤية السعيدة لوطن "اقرأ"، بعد سنوات من الجدب الفكري، ومحاربة الفكر وتقييد الحريات، مدعوة إلى إلزام كل مجمع تجاري بتخصيص مساحة مناسبة لمكتبة ورقية، وفي مطارات المملكة، لنشر الكتاب وتداوله وإشاعة الثقافة، وإيقاظ الوعي الأدبي والفكري، والترغيب في القراءة والمطالعة، وتعميقها في نفس الفرد، وإشاعتها كالماء والهواء، حتى يألفها الناس ولا يملون من رفقتها ومجالستها.
ومما يثلج الصدر ويسعد القلب، إعلان المستشار تركي آل الشيخ، عن إطلاق "جائزة القلم الذهبي للرواية"، والتي تركز على الأعمال الروائية الأكثر شعبية والأكثر قابلية للتحويل إلى أعمال سينمائية، وتتضمن الرواية الرومانسية والكوميدية والبوليسية وروايات الرعب والفانتازيا وغيرها.
وهذا الدعم والتشجيع القيّم من هيئة الترفيه، لا بد أن يقابله تحرك متكامل من وزارة الثقافة، لتكون المكتبات منتشرة في كل مكان، تنشر إبداع الداخل والخارج على حد سواء.
إننا نعيش جودة الحياة، ونتفيأ ظلال رؤية كريمة، فهل نشهد عودة مباركة لعصر الكتاب الورقي ونشره ودعمه من وزارة الثقافة؟ وهل نرى رفوف مكتباتنا وقد جمعت عقول العالم وقدمتها لنا في كتب مترجمة وروايات عربية وعالمية، من فكر وأدب ورواية وشعر، لنعيش جودة الحياة وننعم برفاهية الفكر؟
